قصة عشق ونهاية مأساويّة: عتبة بن الحباب وريّا بنت الغطريف

قصة عشق ونهاية مأساويّة: عتبة بن الحباب وريّا بنت الغطريف
مدى بوست – فريق التحرير
عتبة بن الحباب بن المنذر بن الجموح الخزرجي الأنصاري، هُوّ تابعي وشاعر غزل أُمويّ، من الشعراء العشاق، اشتُهِر بقصة عشقه لمحبوبته ريا بنتُ الغطريف السُّلمي، والده هُوّ الصحابي الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري.
اشتهر عتبة بقصة عشقه لـ ريا بنتُ الغطريف السُّلمي وشِعره فيها، وقصته هذه شَهَد عليها رجلٌ اسمه عبد الله بن معمر القيسي وهُوّ سيد من أسياد العرب وكان بطلاً شجاعًا جوادًا كريمًا ذا مروءة وافرة، وهو من نقل قصة عتبة مع ريا وشهد على أغلب تفاصيلها وما جرى فيها.
روى هذه القصة على لسان القيسي العديد من المؤرخين مِثل: ابن القيم في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وداود الأنطاكي في كتابه تزيين الأسواق في أخبار العشاق، وابن حجة الحموي في طيب المذاق من ثمرات الأوراق.

عبد الله بن معمر القيسي يقابل العاشق عتبة بن الحباب
قال عبد الله بن معمر: حججت سنة إلى بيت الله الحرام، فلما قضيت حجي عدت إلى زيارة قبر النبي، فبينما أنا ذات ليلة جالس في الروضة بين القبر والمنبر إذ سمعت أنينًا رقيقًا بصوت رخيم، فأنصت إليه وإذا هو يقول:
أشجاكَ نَوْحُ حمائمِ السِّدرِ فأهَجْنَ منكَ بلابلَ الصَّدرِ
أمْ عَزَّ نَومكَ ذِكرُ غانيةٍ أهدت إِليكَ وساوسَ الذِكرِ
في ليلةٍ نامَ الخلي بها وخلوتُ بالأحزان والفِكرِ
يا ليلةً طالتْ على دنِفٍ يشكو السُّهادَ وقلةَ الصَّبرِ
أسلمتَ مَن تهوى لحرِّ جَوًى مُتوقِّدٍ كتوقُّدِ الجَمرِ
فالبدرُ يشهدُ أنني كلِفٌ مُغرًى بحبِّ شبيهةِ البدرِ
ما كُنتُ أحسبُني أهِيمُ بحبِّها حتى بُلِيتُ وكنتُ لا أدري
ثُمّ انقطع الصوت عن عبد الله بن معمر القيسي فلم يعرف من أي جهة في المسجد أتى هذا الصوت، وبقي حائراً ساعةً ثُمّ عاد صوت البكاء والأنين، وأنشد صاحب الصوت:
أشجاكَ مِن ريا خيالٌ زائرٌ والليلُ مُسوَدُّ الذَّوائبِ عَاكِرُ
واغتالَ مُهجَتكَ الهوى بِرَسِيسَةٍ واهْتاجَ مُقلَتكَ المنامُ الباكِرُ
ناديتَ ريا والظلامُ كأنهُ يَمٌّ تَلَاطَمَ فيهِ موجٌ زَاخِرُ
والبدرُ يسري في السماءِ كأنهُ ملِكٌ ترجَّلَ والنجومُ عَسَاكِرُ
فإذا تعرضت الثريا خلتها كأساً به حبب السلافة دائِرُ
فترى بهِ الجَوزاءَ ترقُصُ في الدُّجى رقصَ الحبيبِ عَلَاهُ سُكرٌ ظَاهِرُ
يا ليلُ طُلتَ على مُحِبٍّ ما لَهُ إلا الصّباحَ مُساعِدٌ ومُؤازِرُ
فأجابني مُت حتفَ أنفكَ واعلَمَنْ أنَّ الهوى لهوَ الهوانُ الحاضِرُ
فنهضت إليه عند ذلك أقصد جهة الصوت، فرأيته غلامًا في غاية الجمال لم ينبت له عذار بعد،
فقلت له: نعمت غلامًا،
فقال: ومن أنت؟
قلت: عبد الله بن معمر القسيس،
قال: أفلك حاجة؟
قلت له: كنت جالسًا في الروضة فما راعني هذه الليلة إلا صوتك، فبنفسي أفديك ما الذي تجده؟
قال: اجلس، فجلست،
قال: أنا عتبة بن الحباب بن المنذر الأنصاري غدوت إلى مسجد الأحزاب فبقيت راكعًا وساجدًا، ثم اعتزلت أتعبد وإذا بنسوة يتهادين كالأقمار وفي وسطهن جارية بديعة الجمال كاملة الملاحة فوقفت عليَّ وقالت: يا عتبة، ما تقول في وصل من يطلب وصلك؟ ثم تركتني وذهبت، فلم أسمع لها خبرًا ولا وقفت لها على أثر، وها أنا حيران أنتقل من مكان إلى مكان.
وصرخ وانكبَّ على الأرض مغشيًّا عليه، ثم أفاق كأنما صبغت ديباجة خديه وأنشأ يقول:
أراكُم بقلبي مِن بلادٍ بعيدةٍ فيا هل تروني بالفؤادِ على بعدِي ؟
فؤادي وطرفي يأْسَفانِ عليكُمُ وعندكُمْ روحي وذِكرُكُم عندِي
ولستُ ألذَّ العيشَ حتى أراكُمُ ولو كُنتُ في الفردوسِ أو جنةِ الخُلدِ
عبد الله بن معمر القيسي يسعى لجمع العاشقين
قال عبد الله بن معمر القيسي: يا عتبة، يا بن أخي تب إلى ربك واستغفر من ذنبك، فإن بين يديك هول الموقف،
فقال: هيهات! ما أنا سالٍ حتى يئوب القارظان،
فيكمل القيسي قصته، فيقول: ولم أزل معه حتى طلع الفجر، فقلت له: قم بنا إلى المسجد، فقام فجلسنا فيه حتى صلينا وإذا بالنسوة قد أقبلن، وأما الجارية فليست فيهن، فقلن: ما ظنك بطالبة وصلك، قال: وما بالها؟ قلن: أخذها أبوها وارتحل إلى السماوة، فسألتهن عن اسم الجارية فقلن: ريَّا بنت الغطريف السليمي، فرفع رأسه وأنشد:
خَليليَّ! ريّا قَد أُجِدَّ بِكُورِها وسارَتْ إلى أرضِ السماوةِ غَيرُهَا
خَليليَّ ما تقضي به أُم مالك علي فما يعدو علي أميرها
خَليليَّ إنّي قد غشيت من كثرة البُكى فَهَل عند غيري مُقْلَةٌ وعبرةٌ أستعِيرُها؟
فقلت له: يا عتبة، إني وردت بمال جزيل أريد به ستر أهل المروءة، لأبذلنَّه أمامك حتى تبلغ رضاك وفوق الرضا، فقم بنا إلى مجلس الأنصار، فقمنا حتى أشرفنا على ملئهم، فسلمت عليهم، فأحسنوا الرد.
قلت: أيها الملأ، ما تقولون في عتبة وأبيه؟
قالوا: من سادات العرب،
قلت: اعلموا أنه رُمِي بداهية الهوى، فأريد منكم المساعدة إلى السماوة،
فقالوا: سمعًا وطاعة، فركبنا وركب القوم معنا حتى أشرفنا على مكان بني سليم، فعلم الغطريف بمكاننا فخرج مبادرًا واستقبلنا..
وقال: حييتم يا كرام،
فقلنا له: وأنت حييت، إنا لك أضياف،
فقال: نزلتم بأكرم منزل رحب، فنزل ثم نادى: يا معشر العبيد انزلوا، فنزلت العبيد وفرشت الأنطاع والنمارق وذبحت النعم والغنم، فقلنا: نحن لا نذوق طعامك حتى تقضي لنا حاجتنا،
قال: وما حاجتكم؟
قلنا: نخطب ابنتك الكريمة لعتبة بن الحباب بن المنذر العالي الفخر الطيب العنصر،
فقال: يا إخواني، إن التي تخطبونها أمرها لنفسها وأنا أدخل وأخبرها.
نهاية مأساوية للعاشقين عتبة بن الحباب وريّا بنت الغطريف
نهض الغطريف مغضبًا ودخل إلى ريا، فقالت: يا أبتِ، ما لي أرى الغضب بائنًا عليك،
فقال: ورد عليَّ قوم من الأنصار يخطبونك مني،
فقالت: سادات كرام استغفر لهم النبي عليه السلام، فلمن الخطبة فيهم؟
فقال لها: لفتى يُعرف بعتبة بن الحباب،
قالت: سمعت عن عتبة هذا أنه يفي بما وعد ويدرك ما طلب،
فقال: أقسمت لا أزوجك به أبدًا، فقد نمى إليَّ بعض حديثك معه،
قالت: ما كان ذلك، ولكن أقسمت أن الأنصار لا يردون مردًّا قبيحًا فأحسن لهم الرد،
قال: بأي شيء؟
قالت: أغلظ عليهم المهر فإنهم يرجعون،
قال: ما أحسن ما قلتِ.
ثم خرج مبادرًا فقال: إن فتاة الحي قد أجابت ولكن تريد لها مهرًا لائقًا بها، فمن القائم به؟
فقال القيسي: أنا،
قال: أريد لها مهرًا ألف أسوار من الذهب الأحمر وخمسة آلاف درهم من ضرب هجر ومائة ثوب من الأبراد وخمسة أكرسة من العنبر، فهل أجبت؟
فقلت: أجبت، وأنفذت نفرًا من الأنصار إلى المدينة المنورة فأتوا بجميع ما ضمنه، وذبحت النعم والغنم واجتمع الناس لأكل الطعام، فأقمنا على هذه الحال أربعين يومًا.
ثم قال: خذوا فتاتكم فحملناها على هودج وجهزها بثلاثين راحلة من التحف، ثم ودَّعنا وانصرف، وسرنا حتى بقي بيننا وبين المدينة المنورة مرحلة. ثم خرجت علينا خيل تريد الغارة.
حمل على الغارة عتبة بن الحباب، فقـ.ـتل عدة رجال وانحرف وبه طعـ.ـنة ثم سقط إلى الأرض، وأتتنا النصرة من سكان تلك الأرض فطردوا عنا الخيل وقد قضى عتبة نحبه، فقلنا: واعتباه، فسمعت الجارية ذلك فألقت نفسها على الناقة وانكبت عليه صائحة نائحة وأنشدت تقول هذه الأبيات:
تَصبَّرتُ لا أنِّي صَبِرتُ وإنما أُعلِّلُ نفسي أنها بكَ لاحقة
فلو أَنصَفَتْ روحي لكانت إلى الرَّدَى أمامكَ مِن دونِ البريةِ سابقة
فما أحدٌ بعدي وبعدكَ مُنصِفٌ خليلاً ولا نفسٌ لنفسٍ بصادقة
ثم شهقت شهقة واحدة وأسلمت الروح، فحفرنا لهما قبـ.ـرًا واحدًا وواريناهما التراب، ورجعت إلى ديار قومي وأقمت فيها سبع سنين، ثم عدت إلى الحجاز ودخلت المدينة المنورة للزيارة، فقلت: لأعودنَّ إلى قـ.ـبر عتبة، فأتيت إليه فإذا عليه شجرة عالية عليها عصائب لطيفة الألوان، فقلت لأرباب المنزل: ما يُقال لهذه الشجرة؟ فقالوا: شجرة العروسين، فأقمت عند القـ.ـبر يومًا وليلة وانصرفت.