طاعون عمواس: أول تطبيق للتباعد الاجتماعي في عهد الفاروق عمر بن الخطاب

طاعون عمواس: أول تطبيق للتباعد الاجتماعي في عهد الفاروق عمر بن الخطاب
مدى بوست – فريق التحرير
تولى الفاروق عمر بن الخطاب الخلافة بعد خليفة المسلمين الأول أبو بكر الصديق سنة 13 هجريًا، اشتهر بعدله وإنصافه للناس، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.
وفي عهده بلغ الإسلام مبلغًا عظيمًا، وتوسع نطاق الدولة الإسلامية حتى شمل كامل العراق ومصر وليبيا والشام وفارس وخراسان وشرق الأناضول وجنوب أرمينية وسجستان، وهو الذي أدخل القدس تحت حكم المسلمين لأول مرة.
شهدت فترة حكم الفاروق عمر التي امتدت لعشرٍ سنواتٍ العديد من الأزمات، استطاع الفاروق أن يتغلب عليها بالحكمة والحزم المعروفين عنه، ويُعد العام الثامن عشر الهجري عامًا حافلًا بالصعوبات، فقد شهد على أزمتين من أشد الأزمات التي مرت بالمسلمين، مجاعة الرمادة وطاعون عمواس.
طاعون عَمْواس هو طاعون وقع في ولاية بلاد الشام الإسلامية التابعة للخلافة الراشدة سنة 18 هـ/639م بعد فتح بيت المقدس، وسُميت هذه السنة بعام الرمادة لما حدث بها من المجاعة في المدينة المنورة أيضًا.
ويُعتبر هذا الطاعون أحد امتدادات طاعون جستنيان. وهو أول وباء يظهر في أراضي الدولة الإسلامية.

طاعون عمواس: سبب التسمية
سمِّي بطاعون عِمَواس نسبة إِلى بلدةٍ صغيرة، يقال لها: عِمَواس، وهي: بين القدس، والرَّملة؛ لأنَّها كانت أول ما نجم الدَّاء بها، ثمَّ انتشر في الشَّام منها، فنسب إِليها.
فُتحت بلدة عمواس في خلافة أبي بكر الصديق، على يد عمرو بن العاص سنة 13 هـ تقريبًا. ويُذكر أن المسلمين اتخذوا قرية عمواس كمقدمة للجيوش التي حـ.ـاصرت بيت المقدس، وظلّت موضعًا للمسلمين حتى بناء عبد الملك بن مروان لمدينة الرملة.
ووصف ابن حجر طاعون عمواس بالقول: “فهذا ما بلغنا من كلام أهل اللُّغة، وأهل الفقه، والأطباء في تعريفه، والحاصل: أنَّ حقيقته ورمٌ ينشأ عن هيجان الدَّم، أو انصباب الدَّم إِلى عضوٍ فيفسده، وأنَّ غير ذلك من الأمراض العامَّة الناشئة عن فساد الهواء يسمّى طاعوناً بطريق المجاز، لاشتراكهما في عموم المرض به، أو كثرة المـ.ـوت”.
ويجب التفريق ما بين الوباء والطاعون، فبحسب الأحاديث النبوية؛ فإن الطاعون لا يدخل المدينة النَّبويَّة، أمَّا الوباء؛ فقد يدخلها، وقد دخلها في القرون الَّتي خلت.
صفة الطاعون الطبية
الطاعون هو مرضٌ معدٍ تسببه أمعائيات يرسينيا طاعونية (الاسم العلمي: Yersinia pestis)، وهي بكتيريا عصوية الشكل سلبية الغرام غيرُ متحركةٍ عصورةٌ غير بُوغيةٍ، وهي لاهوائيةٌ اختيارية.
تحدث أعراضٌ متنوعةٌ للطاعون، وتتضمن حمى وصداع وضعف عام، وعادةً ما يبدأ ظهور الأعراض بعد يوم إلى سبعة أيام من التعرض لمسبب المرض.
يُحتمل أنَّ طاعون عمواس كان طاعونًا دمليًا، وذلك على الرغم من أنَّ المصادر لم تذكر أي أعراضٍ محددةٍ للمرض. ولكنَّ الطاعون الدملي يؤدي عمومًا إلى توّرمٍ في العقد الليمفاوية.
ينتشر الطاعون الدملي عمومًا عبر لدغات البراغيث أو التعامل مع حيوان مصاب، ويكون التشخيص عادةً عن طريق العثور على البكتيريا في السوائل من العقدة الليمفاوية أو الدم أو البلغم.
نبوءة النبي صل الله عليه وسلم بطاعون عمواس
عند الحديث عن طاعون عمواس في كتب التراث الإسلامي يُربط دائمًا بينه وبين الحديث النبوي الذي جاء في العديد من كتب الحديث ورواه البخاري في صحيحه من حديث الصحابي عوف بن مالك أن النبي محمداً ذكر ست علامات من علامات الساعة الصغرى بترتيب زمني تحدث بين عصر النبي وبين قيام الساعة، فيقول عوف بن مالك:
«أتيت النبي في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فقال: «أعدد ستًا بين يدي الساعة: مـ.ـوتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم مـ.ـوتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مئة دينار فيظل ساخطًا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغـ.ـدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفًا».
فكان شرح الحديث عند علماء المسلمين أن العلامات الستة أولها مـ.ـوت النبي محمد صل الله عليه وسلم، وهو ما حدث في 11 هـ، ثم فتح بيت المقدس، وهو ما حدث في 15 هـ، ثم تلاه مـ.ـوت ينتشر بين المسلمين كَقُعَاصِ الْغَنَمِ، وهو ما حدث في طاعون عمواس والمجاعة التي حدثت في عام الرمادة سنة 18 هـ، ثم استفاضة المال وهو ما حدث بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية، خاصةً استفاضة المال بين عوام الناس بسبب الإصلاحات في زمن عمر بن عبد العزيز، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، وهي ما يعتقد بعض الشُرَّاح أنها فتنة مقـ.ـتـ.ـل عثمان.
كيف أدار عمر بن الخطاب أزمة طاعون عمواس؟
يعتبر طاعون عمواس أحد امتدادات طاعون جستنيان الذي ظهر في 541-542م، وظل يتكرر عدة مرات في القرن السادس والسابع الميلادي حتى 750م.
ظهر في البداية كوباء أصاب الإمبراطورية البيزنطية (الرومانية الشرقية) وخاصة عاصمتها القسطنطينية، وكذلك الإمبراطورية الساسانية والمدن الساحلية حول البحر الأبيض المتوسط بأكمله، حيث كانت السفن التجارية تؤوي الفئران التي تحمل البراغيث المصابة بالطاعون.
يعتقد بعض المؤرخين أن طاعون جستنيان كان أحد أكثر الأوبئة فتكًا في التاريخ، وأنه أدى إلى وفاة ما يقدر بنحو 25-50 مليون شخص خلال قرنين، وهو ما يعادل 13-26% من سكان العالم في وقت تفشي المرض لأول مرة.
استطاع الفاروق عمر بن الخطاب إدارة أزمة طاعون عمواس بحكمة وحزم، والخروج بأقل الخسائر، فكان مما فعله:
رجوع عمر من سَرْغ على حدود الحجاز والشَّام
في سنة 17هـ أراد عمر رضي الله عنه أن يزور الشَّام للمرَّة الثَّانية، فخرج إِليها، ومعه المهاجرون، والأنصار حتّى نزل بِسَرْغٍ على حدود الحجاز والشَّام، فلقيه أمراء الأجناد، فأخبروه: أنَّ الأرض سقيمةٌ، وكان الطَّاعون بالشَّام، فشاور عمر رضي الله عنه واستقرَّ رأيه على الرُّجوع.
وبعد انصراف عمر رضي الله عنه حصل الطَّاعون الجارف المعروف بطاعون عِمَواس وكانت شدَّته بالشَّام، فهلك به خلقٌ كثيرٌ، منهم: أبو عبيدة بن الجرّاح، وهو أمير النَّاس، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان وغيرهم من كبار الصحابة.
ويأتي ذلك تطبيقًا لقول رسول الله صل الله عليه وسلم: “بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل، فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها”.
عمرو بن العاص يأمر الناس بالتفرق: أول تطبيق للتباعد الاجتماعي
لمّا مات معاذ بن جبل بسبب طاعون عمواس استخلف أبو عبيدة على الشام عمرو بن العاص، فقام عمرو في الناس خطيبًا، فقال: «أيها الناس، هذا الطاعون رجس، فتفرَّقوا عنه في هذه الشعاب وفي هذه الأودية».
فقال شرحبيل بن حسنة: «صحبتُ رسول الله وعمروٌ أضلُّ من حمار أهْله، ولكنه رحمةُ ربكم ودعوة نبيكم ووفاة الصالحين قبلكم»، يشير شرحبيلُ إلى حديث نبويّ بمعنى ما قال، فقد حاول أن يرد عمرو بن العاص عن هذه الفعلة، منعًا لانتشار الطاعون.
وفي تاريخ الطبري أن الذي رادَّ عَمْرًا هو أبو وائلة الهذلي، وأن عَمْرًا قال: «والله ما أردُّ عليك ما تقول، وايم الله لا نقيم عليه»، ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا، ورُفع الطاعون عنهم، قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو بن العاص، فاستحسنه.
اهتمام الفاروق بالشام بعد زوال الأزمة
عزم الفاروق عمر بن الخطاب على أن يطوف على المسلمين في بلدانهم، لينظِّم لهم أمورهم، واستقرَّ رأي عمر بعد تبادل وجهات النَّظر مع مجلس الشُّورى أن يبدأ بالشَّام، فقد قال: “إِنَّ مواريث أهل الشَّام قد ضاعت، فأبدأ بالشام فأقسم المواريث، وأقيم لهم ما في نفسي، ثمَّ أرجع فأتقلَّب في البلاد، وأبدي لهم أمري”.
فسار عن المدينة واستخلف عليَّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه؛ فلمَّا قدم الشَّام، قسم الأرزاق، وسمَّى الشَّواتي، والصَّوائف، وسدَّ فروج الشَّام، ومسالحها، وولَّى الولاة، فعين عبد الله بن قيس على السَّواحل من كلِّ كورة، واستعمل معاوية على دمشق، ورتَّب أمور الجند، والقادة والنَّاس، وورَّث الأحياء من الأموات.