صغيرةٌ.. لكني لست لعبة !.. رأي “راسيا سعادة”

عندما دخلت الجامعة لأدرس الإعلام كانت أحلامي كبيرة وأمنياتي لا حدود لها، قلت لنفسي سأكون صوت الضعفاء والمقهورين، سأكون صوت العقل والمنطق، سأكون صوت المتمردين، سأكون أصواتاً كثيرة لأناس كبيرة…. ومضت الأيام وبدأت في العمل، مذيعة حالمة من أرض الحرب عائدةٌ و وطن الإغتراب حاملةٌ وعلى تجّار السياسة ناقمةٌ.
خرجت إلى الناس عبر الشاشة الصغيرة بعد أن عشت أياماً لا أصعب منها قبل الشاشة في مجال الصحافة المكتوبة والمجلات التي تعنى بالإحصاءات السياسية منذ كان عمري لا يتجاوز الخامسة عشر بدأت في مجلة الرأي اللبناني عن طريق الصدفة التي جمعتني بمالكها الصديق الأستاذ جوني نحّاس الذي رأى في عيوني الإصرار على العمل في سنّ مبكرة بعد وفاة والدي حرصاً مني أن لا أكون عبئاً على أي أحد من الأقارب، لم يصدّق وقتها أني سأفهم طبيعة العمل الصحفي كوني صغيرة عليه وأنا نفسي لم أصدق لكن خضنا التجربة معاً الى أن صدّقت نفسي وصدّقني، وأثناء تجربة العمل هذه في المجلة كنت أكمل دراستي أيضاً في الثانوية العامة، وفي كل سنة أكبر سنة وأحلم وأنضج وأبتكر سنين، لما لا وأنا الفتاة الصغيرة في بلد الكبار، وصلت إلى الجامعة رافعة راية ” أنا الفتاة التي أدرس وأعمل في نفس الوقت، أنا الفتاة التي عملت قبل أن تتخرج“، دخلت الجامعة وكلّي أمل وطاقة بأن أحمل الشهادة التي ستسمح لي رسمياً بالعبور الى شاشة التلفاز، قابلت عميدة كلية الإعلام في جامعة الجنان آنذاك الدكتورة الفاضلة ” غادة صبيح” قالت لي كلاماً وقتها لم أفهمه لكن اليوم أفهمه وأحسّه وأعيشه: ” يا بنتي بتعرفي انو الإعلام مهنة البحث عن المتاعب، مهنة التصفيق السياسي، مهنة التنازلات، وأنتِ حلوة، حرّة، حرّة كتير“، استوقفتني هذه الكلمات، لكن كان الحلم والأمل في التغيير وتصديق كذبة ” الإعلام هو السلطة الرابعة” يجعلونني لا أرى شيئاً سوى التحدي للوصول إلى هذه السلطة بكل السبل المشروعة.
عبرت مرحلة الجامعة وانتقلت من مدينة طرابلس شمال لبنان إلى العاصمة بيروت في مقتبل العشرينات علّي أتوّج شبابي بنجاحي وأسلك طريقي بكفاحي، بيروت وما أدراكم ما بيروت، مدينة الألون، التناقضات، التصّنع، الماديات، التمثيل، التضليل، وأهم من ذلك كله مدينة الأحزاب السياسية، فكيف لفتاة مثلي لونها واحد، وطموحها واضح، ابنة الريف الطبيعية المجنونة الحرّة أن تتعايش مع كل هذا ؟!
حاولت مرة وثانية ومئة وألف مرّة، ولم أحصل على فرصة عمل في عاصمتي، بدأت أشكّ في نفسي وقدراتي إلى أن عملت أيضاً عن طريق الصدفة في مشروع إعلامي مع أحد نواب البرلمان السياسي اللبناني وخرجت من هذا المشروع مستقيلة كي لا أكون جزءاً من مشروع الفساد والضحك على المقهورين والضعفاء الذين وعدتهم و وعدت نفسي بهم.
في اليوم التالي، وبعد عتمة الليل التي رافقتني في سماء بيروت خرجت أبحث عن نورها، لم أكن أعلم أن ضوء الشمس يتكلّم، تكلّم معي وبرفقتنا جاري الكبير مالك بيتي الصغير وقالوا لي اذهبي من هذا البلد أو عليك أن تتغيري، إمّا أن تقدمي تنازلات المهنة السياسية والإجتماعية والأخلاقية ومعهم تخلّي عن ” بنت الضيعة” وكل براءتها والجأي الى زعيم طائفتك لا الى زعيم مدينتك الفاضلة فأنتِ في لبنان بلد الحسبان، أو طيري بحريتك إلى بلاد يمكن أن ينصفك فيها القدر.
حزمت أمتعتي ورحلت إلى إسطنبول مدينة الحالمين الهاربين اليها من واقع الألم علّهم يجدون بعضاً من الأمل، قدمت برامج تلفزيونية منها ” بانودراما” على قناة trt العربية و برنامج ” فلنسأل العلم” على التلفزيون العربي وبعضاً من أعمالي الخاصة عبر قناتي الموجودة على يوتيوب. فتحت لي اسطنبول أبواباً جميلة كبداية انطلق بها إلى الأعلى، وبعد أن أعطتني جرعات من الحنان والآمال كانت مبادئي أيضاً هذه المرة تقفل لي أبواب العمل والرزق، فكيف لي بعد أن تمردت على وطني وأبيت التنازل فيه أن أعمل ذلك في غربتي ؟؟
كيف لي أن أقبل صورة زميلة لي ” لا تملك شهادات مثلي ولا خبرات عمل” أن تتقدم عني بخطوات أسهل بكثير من كل عذابي، كيف لي أن أقبل بأن يكون مديري ” لا يتكلم اللغات وبعيداً كل البعد عن الثقافة العامة أن يحكمني؟ ” وكيف لي أن أرضى بمعاشٍ ظالم لمجهودي وتعبي، فأنا أدعّي أني لست مذيعة فحسب بل أنا كاتبة ومقدّمة أضيف من روحي وكفاءتي وأعمل بكل وساعة قلب، فكيف لقلبي أن يسكت عن ظلمي ؟
وفوق كل هذا تأتيك السوشيال ميديا بكبسة زر تسمح لأشخاصاً لا يعرفوا عن مهنة الإعلام وخصائصها وموادها شيء أن يتفوقوا عليك دون أي تعب أو مثابرة أو نضال مشوا به في طريقهم الصغير.
من يحمي حقي في العمل؟ ومن يحمي أملي من الملل؟ ومن سيؤمن بدربي المشروع دون اللجوء إلى النزوع؟