“حياتنا عبث أم أنها تستحق أن تعاش؟!!”.. رأي محمد تلجو

يغني أحدهم (كتاب حياتي يا عين ,الفرح فيه سطرين والباقي كله عذاب).
ويقول الفيلسوف (عبث هذه الحياة وملهاة إلهية كبرى).
أما الشاعر فينشد (جئت لا أعرف من أين ولكني أتيت, غير أني أبصرت قدامي طريقا فمشيت , كيف جئت ولماذا لست أدري؟!)
ويزيدها المعري تشاؤماً فيقول :
غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادي
فهل الدنيا غرورة وخداعة فعلاً، أم أنها تخرصات بشرية لا أكثر، وماذا قال القرآن الكريم عن حياتنا وما هي نظرة المنطق للدنيا في عصر تفجر العلوم وثورتها.
التناقضات البشرية:
أحياناً ترانا ملائكة وأخرى شياطين نسفك الدماء ,حب وكره ,غدر ووفاء وبالإجمال فإن حياتنا عبارة عن تناقضات لا تحصى
كان يقتل أخاه بالحجر ثم أصبح يقتله بالنار وبالصواريخ , كان يسافر على الأقدام أو على الحمار ثم أصبح يسافر بالطائرات , استوطن الكهوف ثم صار ينام فوق السحاب ,لكن حاله لم يتغير يعيش ويموت بنفس التناقضات جشع وكرم , بغض ولؤم وغيرها من عجيب الصفات.
تنوعت مذاهبه فمن قائل أن الحياة مادة وتفاعلات كيمياء ,فلا إله ولا أديان وكلها أوهام بشر كما ذهب الماركسيون وكان ضدهم من يقول بالخلق والنظام كالغزالي وابن رشد وحديثا ديكارت وسواه لكن هذا لم يغير من طبائع البشر فبقيت السيطرة والجشع والحروب هي الموسيقا الأعلى في الحياة , وحين تكون هذه موسيقانا فمن الطبيعي أن تكثر الآلام والأكفان.
من منا لم يصبه اليأس فقال ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا من منا لم تمر به لحظات تمنى فيها أنه لم يخلق ولم يكن شيئا مذكورا؟
مشاعرنا تملأ آفاقنا فحين نشاك بشوكة نرى الدنيا تتألم معنا ولا نشعر من اتساع الدنيا إلا بألم ذاتنا الخاصة وحين نعشق نرى الدنيا كلها تلك الفاتنة و ترى هي الدنيا متجسدة في فحلها المحبوب.
الحياة والدنيا في القرآن :
يؤكد القرآن الكريم أن بهارج الدنيا جميلة ومنوعة ولكنها متاع مؤقت وهش وأن الحياة الأخرى هي الحياة الحقيقية والتي تحتاج إلى المسارعة والبذل في تحصيلها.
(19) (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) سورة الحديد
(وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) سورة العنكبوت
ورغم هشاشة الدنيا بالنسبة للآخرة لكنها عظيمة الخلق والإحكام والمقاصد العظيمة من خلقها انظروا الآيات التالية:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) آل عمران
ويقول في سورة الدخان (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)
ويقول أيضاً مجيبا من يتكلم عن الملهاة في الخلق : وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
ولو تمعنا في خطاب الله القرآني لوجدناه يتحدث عن حق مبين وحكم بالغة من خلق السماوات والأرض والحياة , وأن الحياة ليست لهوا أو عبثا فما مدى انطباق هذا الكلام على حياتنا الواقعية في هذا الكون وأين الحق الذي يدمغ البطل في ظل معاناتنا الكبيرة.
الدنيا من منظور العلم الحديث
1 – لغز بلا حل
لنقرأ البازل يجب أن نركب قطعة ثم ننظر إليه مكتملاً ليتبلور المشهد لعيوننا وتستوعبه عقولنا , ونحن كبشر لا نشكل بحياتنا القصيرة إلا جزءا ضئيلا جدا في هذا الكون العظيم بعمرة الهائل واتساعه اللا متناهي فكيف نحكم على كون يقدر ب 15 ل 20 مليار سنة وعمر البشرية كلها لا يتجاوز 100 ألف سنة خاصة بعد أن اكتشفنا أن أرضنا ما هي إلا ذرة رمل صغيرة في الكون اللا متناهي
وكلما ازدادت علومنا حللنا من اللغز الكبير أجزاء أكثر فأصبحنا أكثر إدراكا لقصورنا كبشر أمام كون معجز ومبهر وبالتالي صار لدينا أجوبة أكثر عن أسئلتنا.
2 – دقة القوانين الكونية
أنى نظرنا في أتساع السموات وأرجاء الأرض ستتجلى لنا دقه فائقة في كل التفاصيل في تنوع مذهل للأحياء و الجمادات وقوانين محكمة تضبط الذرات وتقونن الظواهر الطبيعية المنتشرة في الكون من الضياء للظلمة للزمن للموجات المختلفة واكتشاف عمقها الذري وما دون الذري ناهيك عن تعقيد الخلايا الحية واكتشاف شيفرتها الوراثية المعقدة.
القوانين الدقيقة التي تضبط حركة الكون تسجد عقول العلماء لها , وكلما تعمقوا في فهم الكون أدركوا كم مازلنا كبشر مبتدئين في فهم الكون وقوانينه ونظمه
3- المادة وما وراء المادة
ثورة العلم وسعت مداركنا لعالم الماديات والذي يشمل (الذرات والأشعة الكونية والموجات الراديوية والتلفزيونية بأنواعها والمجرات والخلايا الحية و العلوم تنوعها وأبعاد الكون الستة عشر والأكوان المتعددة ) هذا كله في عالم الماديات ولم ندخل بعد في الغيبيات أو ما وراء الماديات في الروح أو الجان والملائكة وغيره مما لا يدرك حاليا بأجهزة القياس أو بحواس الإنسان.
بهذا العمق وبعد إدراك مكاننا الحقيقي في الكون وما فيه ألا يفترض أن نسأل أنفسنا إن كانت الحياة بهذا الاتساع وبكل هذا التنظيم المبهر المسلح بأسرار عميقة لا تنتهي , فكيف يجوز لنا أن نطلق حكما مبرما على شيء لم نحط بأبعاده بعد , ألسنا كطفل بالكاد يجيد النطق يريد أن يقيم فحول الشعراء
4 – تكامل الحياة
حين نتأمل الحياة نرى غرابتها , كيف تولد الحياة لدى المخلوقات وتنتهي ثم تتجدد وكيف تتغذى الأزهار الفواحة والثمار اليانعة من جيف الأحياء الميتة فتتحول الفضلات والجيف إلى الجمال والغذاء كيف يعطي بياض الثلوج رغم برودته المميتة جمالا أخاذا وتعطي حمم البراكين وانفجار النجوم طاقة الحياة المتجددة وفلزاتها الثمينة رغم حرارتها القاتلة و انفجارها المدمر , فلكل عملة أوجه متعددة قد نراه قبحا من زاوية ويكون جمالا مفيدا من زاوية أخرى أو فائدة لمخلوق آخر ومن يطلق حكما من زاويته فقط فغالبا لن يصيب الحقيقة وإنما هو يتحدث عن نفسه ويعبر عن فهمه المحدود.
5- نسير للأفضل
رغم كل الحروب والضحايا والآلام و بدون أدنى شك فإن البشرية تتقدم للأفضل من العصور القديمة للآن وقد أصبح الإنسان العادي يملك من الرفاهية ووسائل الحياة من نقل ووسائل اتصال وعلاج وغيرها مما لم يكن يملكه الأثرياء في العصور الماضية وهذا أحد المؤشرات على غلبة العقل والخير في تكوين الإنسان على جانب الإفساد الذي لا ينكر وجوده أيضا.
6 – وأجل مسمى
من له بداية فلا بد أن تكون له نهاية ,في حمأة المصيبة تضيق حلقات الدنيا بالمرء يظن أنها نهاية العالم, ولكنها برهة ويتغير الحال حزنا أم سرورا, فالقاتل ميت والشهود ميتون ويستبدل الجيل بأكمله كل مائة عام تقريبا, ليأتي جيلُ جديد يتابع مسيرة أسلافه في الخير والشر لحكمة كبرى اختصرت في (وعلم آدم الأسماء كلها ) ليتحقق لابن آدم التفضيل على سائر المخلوقات , وبالتالي يستحق سجود الملائكة له وكل هذا لأجل مسمى حيث ستبلغ الكرة الأرضية عمرها القصير ضمن عمر الكون الكبير .
و سيستمر ابن آدم وحواء يسأل ويبحث ويشتهي ولن يكتفي بكل شجر الجنة لأن شجرة واحدة منعت عنه ولن يكتفي بكل الأبواب المسموجة طالما هناك باب مقفل أمامه سيبحث في الآفاق مع أن الجواب أمامه ويختم الله القصة كلها يوما ما بقوله لابن (آدم كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).